لماذا نتعلم ؟!
د. عبد الكريم بكار
إن الوظيفة الأساسية
للإنسان في هذه الحياة هي النجاح في مجموعة الابتلاءات التي يتعرَّض لها، من خلال
القيام بحقوق العبودية لله (جل وعلا) وإعمار الأرض - بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من
معنى - وينبغي أن يكون كل علم نتعلمه، وكل تقدم حضاري نحرزه مساعداً لنا - بوجه ما
- على القيام بواجباتنا وأداء رسالتنا على الوجه المطلوب.
إن العلم نمط فرعي من
فروع كثيرة من الحياة، ولذا فإن بإمكان الناس أن يستخدموه في صنع الخير وصنع الشر،
وينبغي أن تترك رؤيتنا الشاملة والكبرى للحياة بصماتها على جميع ما نعلِّم ونتعلم،
وعلى جميع استخداماتنا للعلوم والمعارف.
إن الحضارة الغربية،
تركز في حركتها العلمية على (كيف) أي على الأساليب والأدوات، وكل ما يمكن أن
يستخدم في تحقيق الغلبة الحضارية والرفاهية العامة، وهي إلى جانب هذا، لا تكاد
تهتم بالجواب على (لماذا) أي الأهداف والمحصلات النهائية لكل هذا العناء الإنساني!.
أمة الإسلام اليوم فقيرة
في كل ما يتعلق بـ(كيف) وهي تسعى لامتلاك أطراف منه، لكن الخوف الذي ينتابني هو أن
تنسى وتضيّع ما يتعلق بـ (لماذا) على مقدار ما تمتلك من (كيف) وآنذاك فإنها تفقد
خصوصيتها وأسباب تميزها.
العلم بين ترسيخ
الثقافة وغربلتها:
الثقافة هي ذلك النسيج
المعقد من المبادئ والأفكار والنظم والآداب، والأخلاق، والتقاليد، وما يمثل خلفيات
تاريخية لكل ذلك. وإن الناس يتشرّبون أكثر قيمهم الثقافية دون وعي منهم، كما أنهم
غير قادرين على اكتشاف الزيف ونقاط الضعف فيها؛ لأن الثقافة أشبه شيء بـ(الصحة) لا
يلمسها الناس إلا عند فقدها أو شعورهم بأنها مهدَّدة بالزوال.
لا يستطيع أي مجتمع أن
يتجاوز مرحلة التوحش والتفكك، والتخلف إلا من خلال ثقافة حية تمنحه الرؤى،
والأفكار، والمشاعر، والأهداف، والإحساس بالمصير المشترك.
إن ذوي الثقافة العليا
في الأمة وحدهم هم الذين يدركون الذاتية الثقافية للأمة، فمن خلال معرفتهم بأصولها
الكبرى، وخبرتهم بمفاصل تطورها، وعبر مقارنتهم لها بثقافات الأمم الأخرى، يضعون
أيديهم على ما ينبغي أن يستمر من تلك الثقافة، كما يلمسون الأجزاء المعطوبة فيها فيعملون
على تخليصها منها.
ونشعر اليوم أكثر من أي
وقت مضي لحاجة الأمة إلى أن ترسخ مؤسساتُها التعليمية عدداً من القيم التي تمثل
جزءاً مهماً من منهجيتها العليا، وتلك التي يحتاجها النهوض الشامل، من نحو
الإخلاص، والصدق، والنزاهة، والشورى، والعدل، والحرية، والإنصاف، والتعاون،
والتفتح، والدقة، والجدية، والإيثار، وسعة الفهم، والمرونة، والمثابرة. ومهمة الرسالة التعليمية أن تؤكد هذه القيم، وتفضح الممارسات التي
تناقض مدلولاتها.
ومن وجه آخر فإن أمة
الإسلام ورثت من عصور الانحطاط والتدهور مفاهيم، وأخلاقاً وتقاليد فاسدة، مما يجعل
ثقافتنا مثقلة بأشياء كثيرة معطوبة، تحتاج إلى استئصال وإبعاد عن حياتنا وتربيتنا،
من نحو: الكسل، والفوضى والإعراض عن المشاركة في الشأن العام، والاستبداد بالرأي،
والفكر الخرافي، والإرجائي، والقدري، وعادات التبذير، والمظهرية، والشكلية،
وانعدام الشعور بالمسؤولية، والخروج على النظام، وأكل الحقوق والاستهانة بكرامة
الإنسان، وحب الإنجاز السريع، وما شابه ذلك من أخلاق وعادات تعوق الأمة عن الوصول
إلى أهدافها.
إن المجتمع العلمي ليس
ذاك الذي يشيّد المدارس والجامعات، وينشر الكتب، وإنما ذلك المجتمع الذي يصوغ
حياته اليومية ونظمه وأعرافه وفق المعارف، والمناهج التي يلقِّنها لأطفاله وطلابه.
إن المؤسسات التعليمية -
على اختلاف مستوياتها - تستطيع القيام بذلك إذا حاولت أن تجعل من نفسها البيئة
النموذجية لتجسيد ما تعلمه للناشئة في أوضاعها العامة، وفي العلاقات القائمة فيها.
إن المؤسسات التعليمية
يجب أن تصبح منصات لمناقشة أنواع التصدع المختلفة بين المبادئ وأشكال السلوك
اليومي، وأن يُكشف عنها بوضوح تام من أجل تأمين نوع من الانسجام بين الرمز
والخبرة، وبهذه الطريقة نحمي ذاتيتنا الثقافية من التخريب، والتشرذم، ونؤمن لها
التكامل والاستقرار.
تحسين نوعية الحياة:
في بنيتنا الثقافية
العميقة أن العلم للعمل، وكثيراً ما نرى في القرآن الكريم اقتران الإيمان بالعمل
الصالح، وكان هذا حافزاً للمسلمين على تجاوز أدبيات المنطق اليوناني الذي يجافي
التجربة ومحاورة الطبيعة، فوضعوا المنهج التجريبي، ونهضوا بجوانب الحياة العمرانية
والمدنية المختلفة.
واليوم فإننا بحاجة ماسة
إلى أن نمعن النظر في الواقع، ونحاول القبض عليه وتشخيصه من خلال قيمنا وتجربتنا
الحضارية، حتى نوجه العلم إلى حلول المشكلات التي يعانيها السواد الأعظم من الناس.
إن المهم اليوم ليس أن
يحفظ الطلاب الكثير من المعلومات عن ظهر قلب، وإنما المهم أن نوجد المنافذ العملية
التي تمكِّن الطلاب من فهم حقيقي للغايات التي تعلموا من أجلها. ولن يكون ذلك
ممكناً مالم يعرف الناشئة كيف يستخدمون المعارف التي تعلموها، وكيف يستفيدون منها
في حل مشكلاتهم والارتقاء بأنفسهم. وهذا يعني أن الحاجة قائمة إلى الكثير من
(البيان العملي) لما تعلمه الأولاد في المدارس.
إن مقولة: (العلم للعمل)
ومقولة: (من الجامعة إلى المصنع) بحاجة إلى نوع من التطور اليوم، حيث إن المطلوب
أن يُعدَّ الطالب إعداداً يمكِّنه من تأسيس حياة أفضل له ولأسرته، وذلك من خلال
إنضاجه عقلياً، وروحياً، وخلقياً، واجتماعياً، ومهنياً؛ ليكون عضواً فعالاً،
وإنساناً صالحاً في مجتمعه. إن إعداد الشاب ليكون إنساناً منتجاً فحسب، قد يفيد في
تحسين وضعه المادي، لكن الواقع أن (الحياة الطيبة) لا تولد من رحم الرخاء المادي
وحده، وإنما من خاصية الانسجام والتوازن بين المطالب الروحية، والمادية، ومن سلام
الإنسان مع نفسه، ومن قيامه بأداء واجباته.
إن بعض الشعوب
الإسلامية، يتضاعف عددها كل خمس عشرة سنة مرة، وهؤلاء القادمون الجدد، بحاجة إلى
أن يُستوعبوا نفسياً، واجتماعياً، وهم بحاجة إلى تعليم وسكن وخدمات وفرص عمل...
ولكل هذا تكاليفه، ومطالبه. ومع أن الأطفال والشباب ينتظرون كل هذا من الكبار، إلا
أن الصحيح أن على الناشئة أن يتدربوا على المزيد من الاعتماد على النفس، والاهتمام
بالمستقبل، والقيام بشؤونهم الخاصة؛ كي يتمكنوا من خوض غمار عصرٍ يزداد العيش
الكريم فيه صعوبة ومشقة!
ترشيد ردود الأفعال:
إن عصرنا هذا هو عصر
المشكلات والتحديات الكبرى، وهو كذلك عصر الفرص والإمكانات الهائلة. والمأزق الذي
يظل يواجهه بنو الإنسان هو إدراك المشكلات بحجمها الطبيعي، وتلمس المنهجيات،
والإمكانات، والفرص المتاحة لحلها. وهنا تظهر أهمية ما يقدمه (العلم) في شقي
المشكلة.
إننا لا نستطيع إدراك
الواقع على نحو دقيق إلا من خلال (وسيط معرفي) مكوَّن من المبادئ التي نؤمن بها،
ومن طريقة نظرنا إلى الأمور، إلى جانب المعطيات والمؤشرات والمعلومات التي تحصلت
لدينا عن الواقع الذي نريد معرفته.
إن الخبرة التاريخية
تؤكد أن ما يقدمه (الذكاء) والتفوق العقلي في مسألة فهم الواقع ومعالجته، ضئيل
بالنسبة لما تقدمه الخبرة المتراكمة، والتجربة الحية. ومن الواضح أن المجتمعات
التي يسود فيها (التجريب) ويتجه العلم فيها لمعالجة المشكلات التي يعانيها الناس،
استطاعت أن تتفهم واقعها، وأن تواجه تحدياته على نحو أفضل من تلك المشغولة بتفسير
الماضي، وتمجيد الذات، وتمثل المشكلات عن طريق التأمل والخيال، بدل المسح والإحصاء.
إن مهمة العلم لا تقتصر
على رسم الفضاء النظري لأشكال المبادرات الفردية والاجتماعية فحسب، وإنما تتجاوز
ذلك إلى منحنا محددات لماهية (ردود الأفعال) على مجمل التحديات التي نواجهها، ولكن
ذلك لا يأتي عفواً، وإنما من خلال ولاء تام للمنهج العلمي، ومن خلال إرادة صلبة
لمقاومة الزيف الذي يمكن أن يتسرب إلى تصوراتنا وسلوكياتنا.
إن «اليابان» تقدم
نموذجاً حياً لما يمكن أن يفعله شعب تجاه التحديات الصعبة، والظروف القاسية التي
تواجهه: إن ضيق المساحة القابلة للسكن قد دفع إلى إنتاج الأشياء الصغيرة الحجم،
كما أن الخوف من العزلة أدى إلى تطوير وسائط الاتصال، وقلة مصادر الطاقة إلى البحث
عن بدائل إعلامية للانتقال، وتواتر الهزات الأرضية إلى تطوير أشياء خفيفة الوزن
سهلة النقل قليلة الكلفة سهلة التبديل. وأخيراً لقد تعلمت اليابان من تاريخها
الطويل المتميز بالعنف، كيف تدير التبدلات بطريقة ناجعة، فهم يطورون ما يحتاج إلى
تطوير ببطء، لأنه يحتاج إلى حصول التوافق بين جميع المراجع المعنية، وبذلك يكون
تاماً عندما تصبح الظروف مهيّأة لتنفيذه! وقد تم كل ذلك بمؤازرة متميزة من برامج
التعليم العام والمهني.
إن علينا أن نتساءل
دائماً: ما قيمة مالدينا من أفكار وآراء ومعلومات وخبرات إذا لم تجعل ردود أفعالنا
على التحديات أكثر رشداً وتنظيماً؟!
تفهم حاجات الأكثرية:
سيكون العلم لتحسين حياة
الناس إذا استطاع الذين يمسكون بناصية المعرفة، وينتجونها، وينقلونها أن يتفهموا
الحاجات الحقيقية للسواد الأعظم من الناس، وهي حاجات متنوعة وكثيرة.
وتبدأ المشكلة عند تصور
كثير من المثقفين لدينا حاجات الناس من أفق الثقافة التي كونت شخصياتهم العلمية،
فكثيراً ما يشخِّص الاقتصادي حاجات الناس من منطلقات اقتصادية بحتة، ويشخِّص
القانوني والحقوقي حاجاتهم من خلال نظرة دستورية ونُظُمية... وبعض المثقفين
المسلمين درس في الغرب، وآخرون درسوا في دول تنتمي إلى المعسكر الشرقي (سابقاً)
وما درسوه لم ينطلق من رؤية حضارية إسلامية، ولا هو نابع من إدراك جيد لواقعنا،
وهذا شيء طبيعي، لكن ما ليس طبيعياً أن يعمد أولئك المثقفون إلى تصور حاجات الناس
في عالمنا الإسلامي من منظور الدول التي درسوا فيها، ثم اقتراح مناهج وتقنيات
وحلول مستوردة من تلك الدول عينها، وبذلك يتم تحويل مؤسساتنا التعليمية إلى حقول
تجارب، ومع كثرة المحاولات فالنتائج مازالت تدعو إلى الإحباط!
إنني أعتقد أن كثيراً من
مثقفينا يحتاج إلى إعادة تأهيل، وإلى تثقيف جديد، يتمحور حول محاولة الامتلاك
لرؤية شاملة ونقدية لما يجب عليهم أن يفعلوه تجاه الأميين والضعفاء، والمساكين،
والمأزومين، والتائهين، وهؤلاء يمثلون العمود الفقري للأمة