المدرس ومهارة التوجيه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا
مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:-
فإنه قرار صائب ذاك الذي اتخذتَه بالتوجه لهذه المهنة
الشريفة، والتصدي لحمل هذه الرسالة الخالدة، فقد وضعتَ
قدميك في طريق البناء والإعداد لهذه الأمة، ولستَ بحاجة أخي
المدرس إلى أن أدبج لك المقال، وأستنجد لك اليراع.
أي خطأ يرتكبه ذاك الذي يظن التعليم وظيفة رسمية فحسب، وأي
ظلم وإهانة
للجيل والنشء- لا للمعلم وحده - تلك النظرة القاصرة التي
تقلل من مكانة المعلم، وترى أن التعليم وظيفة من رضوا
بالدون، وأخلدوا للدعة، وتركوا التسابق للمراتب العالية.
وكم أتهلل بشراً وأسعد حين أراك أخي المدرس يا من تحمل
بين طياتك نفساً صادقة، وقلباً حارًّا يحترق على واقع
أمته، ويتألم لحال الشباب. ومع ذلك فلم يكن هذا الهم عائقاً
لك ومثبطاً، بل أنت تحمل طموحاً صادقاً، ونفساً أبية متطلعة
للإصلاح والتغيير. ولم يقف الحد عند هذه المشاعر، فها أنا أرى ثمرات جهدك، ونتاج عملك، بارك الله فيك، وزادك علماً وعملاً.
أخي المدرس : كثيراً ما سمعت كلمات الثناء الصادقة من
طلابك، وكثيراً ما رأيت بصماتك ظاهرة عليهم، أرأيت الشباب
الغض الذي يتسابق إلى الصفوف الأول في المساجد، ويسارع إلى
حلق العلم ومجالس الخير؟ ولن أقول لك اذهب إلى المدارس، فأنت
من أهلها، ألم تر إليها وقد تزينت بأولئك الأخيار، وقد صاروا يسابقون
إلى أعلى المراتب، ويبزون أقرانهم. فكل ما ترى أخي الكريم بعض ثمرة جهدك
وجهد إخوانك من الأساتذة والدعاة.
ولكن ومع هذه الجهود الخيرة المشكورة هناك فئة من
المعلمين الأخيار، لا مطعن في دينهم، ولا شك في فضلهم، فنحن
نحبهم في الله، ونعتقد أن أكثرهم أفضل منا عند الله، ونسعد
بلقائهم ودعواتهم الصادقة، لكنهم لا يزيدون على أن يندبوا واقع
الشباب، ويتألموا لما هم فيه، دون أن يحركوا ساكناً.
فأستأذنك أخي الكريم أن أخاطب هؤلاء الأحباب فحقهم علينا
عظيم..
فهل فكرت أخي الكريم في عظم الموقع الذي تبوأته، والأمانة
التي تحملتها، فذاك الرجل الطاعن في السن، وتلك المرأة
الضعيفة قد علقوا آمالهم بعد الله عليك في استنقاذ ابنهم
وحمايته، والمصلحون الغيورون يعدونك من أكبر الآمال في استنقاذ
المجتمع، والأمة تبحث أخي الفاضل عن المنقذ لها ولأبنائها، وأنت أخي
المدرس جزء من محط آمال الأمة.
أخي المدرس: أنت يا قارئ السطور أعنيك ولا أعني سواك، أنت
محط آمالنا، أنت طريقنا لا إلى الشباب والتلاميذ وحدهم بل إلى الناس كلهم.
أعلم أخي المعلم أنك ستقول: علمي ضعيف، قدراتي محدودة،
وربما لست صاحب اختصاص شرعي، أعلم ذلك كله، ولكني أجزم
أنك قادر على أن تصنع الكثير، ومهما ضعف علمك، وتواضعت
قدراتك، وقلَّت خبرتك، مهما خلعت على نفسك من أوصاف القصور،
وسلكت من أبواب التواضع، فأنت قادر على أن تقدم الكثير، ولا نطلب منك أخي
المدرس إلا ما تطيق. ألا تطيق الكلمة الناصحة؟ ألا تطيق التألم والحرقة
على واقع أبنائك؟.
وحجة أخرى طالما سمعناها: المنهج طويل، لا أجد الوقت،
لكنا نريد أخي الكريم دقائق معدودة، تستطيع توفيرها من
كثير من الوقت الذي يضيع، والاستطراد الذي لا ضرورة له.
أخي المدرس: ما أغناك عن أن أحدثك عن الواقع المرير
لأمتنا، أو عن التآمر على شباب المسلمين، أنسيت ما فعل دنلوب
وأذنابه؟ أنسيت ما بذل جيل المسخ ليحول بينك - أنت المعلم -
وبين إبلاغ كلمة الحق الصادقة إلى القلوب المتعطشة؟ .
أخي المدرس: أخاطب فيك الغيرة والحمية لدين الله، فأنت
تقابل الشباب كلَّ يوم، وتدرك أيَّ غفلة وعالم يعيشونه، ترى
مظاهر الإعراض، ومصارع الفتن، فكيف لا تحرك فيك ساكناً؟.
ألم تره ذاك الشاب الذي يعيش معاناة واضطرابات المراهقة،
ويصارع الشهوات، وتعصف به الرياح من كل فج، أو الآخر الذي اكتنفه رفاق
السوء فأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم؟ فهل وصل بك أخي الكريم عدمُ
القدرة ونقصُ الخبرة إلى أن تعجز أن تقدم شيئاً لهذا وأمثاله؟.
أخي المدرس: لست أدعوك إلى عمل خير تساهم فيه فحسب، ولا
أحثك على القيام بنافلة من أفضل النوافل، إنما أدعوك إلى
أن ترعى الأمانة، وتقوم بالمسؤولية، وبعبارة أدق: أن تؤدي الواجب
الشرعي.
ألست راعياً أخي المدرس ؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلم :
"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" (رواه البخاري (
893 ) ومسلم ( 1829 ) .) ؟ ألست ترى المنكر؟ ألم يقل صلى الله
عليه وسلم :"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع
فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه"( رواه مسلم ( 49 ) .) ؟ وهل وصل بك الأمر إلى أن لا تطيق إلا الكلمة العابرة أو النقد السلبي؟ ألا تطيق أن تحمل همَّ الإصلاح؟ ألا تطيق أن تفكر في وسائل تربية الناشئة وتوجيههم؟
كيف أخي المدرس تتحمل أمانة تدريس المنهج الدراسي، وتأخذ
مقابل ذلك أجراً من مال المسلمين؟ وحين ندعوك لتحمل أمانة
الدعوة والتوجيه - التي هي واجبة عليك ابتداءً، وقد زادت مع
تبوئك هذا الموقع - حين تكون الحاجة الماسة لحمل الأمانة
التربوية تعتذر بعدم القدرة، والضعف العلمي، وفقد الخبرة، وتحسب أن هذا
من التواضع. بل التواضع هو القيام بالواجب والاستعانة بالله.فعجباً
لهذا القلب للمفاهيم! ومتى كان التخلي عن الواجب وترك المسؤولية
تواضعاً؟
كيف أخي المدرس تنقد واقع الشباب، وتتحدث عن سلبياتهم ومع
ذلك لا تحرك ساكناً، ولا تقوم بجهد؟.
معذرة لهذا الخطاب الجريء فلولا أني أقدر مسؤوليتك التي
ستسأل عنها يوم الحساب، ولولا أني أخاطب قلبك الواعي،
وعقلك المدرك. لما جرأت عليك، ولولا أن الأمر لا يحتمل الإغضاء
لطويت الصفحة، ولولا ثقتي الكبيرة بأن ما أقوله سيثير كوامن
خفية في نفسك لما سطرت حرفاً واحداً.
أخي المدرس : هل تزهد في ابنٍ بار، وتلميذٍ يقدر جهدك؟
وهل أنت مستغنٍ عن دعوة صالحة يخصك بها من قدَّمت له خيراً؟
إن هذه عاجل النتائج وبشرى المؤمن، أما ما عند الله فهو خير وأبقى.
أخي المدرس : إن الشعورَ بأهمية التوجيه، بل والخطوات
العملية مطلبٌ نفيس، ولكن لا ينبغي أن نقف عند هذا الحد بل
يجب أن نتجاوزه إلى أن نتعلم فن التوجيه، وأساليب التأثير،
وهذا باب واسع، لن يحيط به ما سطرته، ومهما بذلت فالأمر
أكبر من شخصٍ قاصر، ولذا فأنا أدعو أن تتضافر الجهود لاكتشاف وسائل التأثير،
وأن نتبادل الخبرات. فأدعو هنا إخواني إلى المساهمة في الأمر، كتابة
ومحاضرة، ومناقشة، ويسعدني أن أتلقى من الإخوة الكرام أي ملحوظة، أو
رأي، أو توجيه، أو اقتراح.
وأنا كاتب هذه السطور إن نسيت فلن أنسى ذاك الأستاذ
الفاضل الذي درسني في المراحل الأولية-رحمه الله- كنت ألمس
يومها -وأنا طفل بريء - في وجهه الصدق والعاطفة الحية، ولا
تزال أصداء كلماته تتردد في أذني، فرحمه الله وأجزل مثوبته،
وأعلى درجته. والآخر الذي عوَّضه الله عن نور بصره بنور بصيرته -أحسبه
كذلك والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً- فلله كم ربَّى فيَّ من فضائل،
وكم من كلمة صادقة سمعتها إن نسيت حروفها الآن فقد ترجمت إلى عمل وواقع
فصارت جزءاً مني لايفارقني. وهل أنسى بعد ذلك ذاك الشيخ الوقور الذي
مَنَّ الله عليَّ بحفظ كتابه على يديه؟
وبعدهم خطا بي العمر فانتقلت إلى المعهد العلمي، فتشرفت
بالتتلمذ على
مشايخ أجلاء وأساتذة أفاضل.ولست أملك والله ما أقدم لهم
من العرفان
والوفاء أفضل من الثناء الصادق، والدعاء الصالح. اللهم
فاغفر لهم جميعاً، وارفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، واجزهم
عني خير ما جزيت والداً وأستاذاً ناصحاً.