إصلاح بخات
رعاية أطفال الأمهات العازبات مسئولية مجتمعية مشتركة
"التربية الجنسية لم تدخل مقرر التعليم؛ لأن كل شيء عندنا حـْشُومَة". جاءت هذه العبارة على لسان السيدة "محجوبة إدبوش"، مديرة جمعية "أم البنين" بمدينة أغادير جنوب المغرب لمساعدة الأمهات العازبات.
ولعل كلمة "حـشُومة" (أي عيب) هي مربط الفرس ومصدر مآسي أجيال من الفتيات والنساء اللاتي وضعن أطفالا خارج إطار الزوجية، أمهات يصفهن المجتمع بـ"الفاسدات" وأطفال ينعتهم بـ"أولاد الحرام" و"اللـُّقطاء".
ولم تـُُفلت من الاتهامات بالفساد "السيدة إدبوش" شخصيا منذ أن بدأت العمل مع منظمة "أرض البشر" غير الحكومية السويسرية المعنية بحقوق الطفل. وكانت هذه المنظمة أول من أطلق برنامجا لمساعدة الأمهات العازبات في أغادير في الثمانينيات. وعندما أرادت المنظمة تمرير المشروع للجميعات المحلية، كانت ردة فعل الناس عنيفة.
مسئولية مجتمع
وتقول السيدة "إدبوش" لدى استرجاعها لتلك الفترة "أحمد الله الذي أعطاني القدرة كي أدافع ليس عن نفسي، بل عن قضية أقول فيها اللّهم إن هذا منكر، وما يجهله الناس هو أن معضلة الأمهات العازبات لا تمس الفقراء فحسب بل جميع شرائح المجتمع".
وشددت السيدة إدبوش على أن منظمة "أرض البشر" قامت بـ"مجهود كبير" لمدة سنوات طويلة في المغرب لمساعدة الأمهات العازبات، مؤكدة أن الأطفال الذين تكفلت بهم أصبحوا "من أصلح المواطنين" قائلة: "هذا ما شجعنا ووضع فينا الإيمان والقوة للكفاح. نحن لا نحاسب الأطفال والأمهات، ونترك من يريد قول أي شيء يقوله، ونعمل على أن يصبح أي طفل وصـل بين أيدينا مواطنا صالحا يخدم بلاده ويكون مسلما حقيقيا يعرف الدين والشريعة".
فهل لا يتحمل هذا المجتمع وأولياء الأمور فيه جزءا من المسؤولية عن الوضع المأساوي الذي تؤول إليه نساء أغلبيتهن مقهورات بأمية فظيعة وفقر مدقع؟ نساء يُرمى بهن في الشارع لإبـعاد وصمة العار، وأطفال يُلقى بهم في دار الأيتام، وهم ليسوا أيتاما، وآخرون يُتخلى عنهم في المُستشفيات أو في دور الدعارة وغالبا ما يُسلمون لأسـر تجهل أصلهم.
النتيجة واحدة والأسباب متعددة
تقول مديرة جمعية "أم البنين" التي مازالت تتلقى الدعم من فرع منظمة "أرض البشر" في المغرب: "أي سيدة عانت من مشكل وحملت تُسمى فاسدة، والحقيقة ليست كذلك".
وشددت السيدة "محجوبة إدبوش" في هذا السياق على أن مجال النساء اللاتي يرتزقن بالدعارة واضح، مع التذكير بأنهن لم "يخترن" تلك الحياة بدون سبب وبأن البدائل شبه منعدمة بالنسبة لهن. أما باقي الأمهات العازبات اللاتي يلجأنلجمعية "أم البنين" فتُصنفها السيدة إدبوش إلى خمس فئات:
الأولى تشمل خادمات البيوت اللاتي بدأن العمل في عمر مبكر جدا (قد يكون خمس سنوات!). عن هذه الفئة تقول السيدة إدبوش: "بحكم أنهن عملن وتعبن، يصلن إلى عمر يرغبن فيه في الاستقلالية، وفور اللقاء بأي رجل يعد الفتاة بالزواج تذهب معه. وبما أنها أمية وليست على استعداد وتفتقر إلى أي خلفية لحماية نفسها، وتجهل مسائل كثيرة عن الشريعة والدين والتربية الجنسية، فكيف يمكن أن نحاسبها؟".
الفئة الثانية تضم البنات اللاتي سمتهن الجمعية "ربات الأسر"، واللاتي يأتين من جميع مناطق المغرب للبحث عن عمل في مدينة أغادير المشتهرة بـوفرة معامل تصبير السمك فيها.
أما الفئة الثالثة فهي مكونة من البنات اللاتي تمت خطوبتهن وقراءة الفاتحة دون التوقيع على عقد الزواج، وتخلى عنهن الخطيب بعد حملهن. وعن مثل هذه الحالات، قالت السيدة إدبوش: "لحسن الحظ أن المدونة الجديدة (قانون الأسرة) باتت تحمي الفتاة إذا ما قُرأت الفاتحة".
الجامعيات أيضا
الفئة الرابعة التي قد تثير الدهشة والقلق، تشمل الطالبات في المستويات الإعدادية والثانوية وحتى الجامعية. فهذه الفئة تـُظهر أن التعليم لا يحمي بالضرورة الطالبات من الوقوع في خانة الأمهات العازبات. وتنوه السيدة إدبوش إلى أن فئة الطالبات الجامعيات تحديدا ظاهرة خطيرة جدا إذ تقول: "الطالبات (اللاتي تلتقي بهن الجمعية) غير مسؤولات لأنهن عندما يـلدن يكون الحل الوحيد لديهن هو تسليم الرضيع للجمعية".
وتضيف بلهجة مستاءة ونبرة شبه يائسة: "ما لا يفهمه المغاربة هو أن الأمـومة لا فيها لا حلال ولا حرام. عندما تلـد الفتاة تصبح أمـّا بصفة تلقائية؛ لأن الشعور بالأمومة لا يقتضي بالضرورة عقد الزواج (...) ولا ينفيه حتى الإجهاض".
وفي هذا الإطار، تُُـلفت السيدة إدبوش الانتباه إلى عامل نفسي هام لدى الأم العازبة ربما يغفله المجتمع، إذ تقول: "عندما تتخلى الفتاة عن مولودها المرة الأولى، يمكن أن تحمل مرة ثانية لأن أمومتها تبحث عن طفلها الأول عن طريق وضع طفل ثاني، هذا ما لم يفهمه الناس، لكن نحن العاملون في هذا الميدان، أدركنا هذا الجانب واستنتجنا أن الطريقة الوحيدة للحد من الظاهرة هو ألا تعطي البنت مولودها، وأن تُـصلحَ أمورها ليـُصبح ابنها مواطنا صالحا، علما أن الحال الأمثل هو العفة، ثم إن الزجر في هذا المجال يجب أن يكون في حق المرأة والرجل على حد سواء".
حقوق غير مضمونة
أما الفئة الخامسة والأخيرة فتتشكل من البنات اللاتي تمت تربيتهن من طرف العائلات. وتعاني هذه الفئة من مشاكل اجتماعية وقانونية عدة من أبرزها النزاعات حول الميراث، إذ يحدث أن يُـلقى بالفتاة في الشارع بعد وفاة المُتكفلين وتجميع الورثة لإثني عشر شاهدا لإثبات عدم انتمائها للأسرة.
كما يمكن أن تواجه هذه الفئة مشكلة اكتشاف حقيقة أصلهن بأنفسهن أثناء سن المراهقة، وغالبا ما تكون الصدمة دافعا لهجرة البيت والوقوع بسهولة فريسة لرجال يعدوهن بالحنان وبالاستقرار.
وترى السيدة إدبوش أن "المؤسسات التي سلمت البنات هي التي تتحمل المسؤولية؛ لأنها لم تؤطر لا العائلات ولا البنات من الناحية النفسية ولم توفر لهن المتابعة. أنا ألوم هذه المؤسسات لأنها لم تفرض على المتكفلين كتابة ثلث الميراث الذي يمكن أن يحمي الأطفال في حال وقوع مشاكل".
نقائص المدونة الجديدة
ورغم أن السيدة إدبوش أشادت ببعض إيجابيات المدونة الجديدة (قانون الأسرة) في المغرب، فإنها أعربت عن الأسف الشديد لوجود بعض النقائص. وترى السيدة إدبوش أنه كان يجب أن تُرفق المُدونة بضرورة إيواء السيدات وأطفالهن في حال خروجهن من بيت الزوجية، وأيضا الأمهات العازبات، للاستقرار في مكان آمن إلى حين تسوية مشاكلهن.
من ناحية أخرى، تعتقد السيدة إدبوش أن رفع سن الزواج في القانون الجديد إلى 18 عاما ليس خطوة إيجابية مادام المغرب يعاني من ظاهرة الأمهات العازبات. وأوضحت أن الجمعيات الناشطة في هذا المجال لم تكن لتوافق على رفع سن الزواج لو تمت استشارتها، قائلة : "لو كان كل الناس في المغرب متعلمين وواعين، يمكن أن نوافق على 18 عاما، لكن بما أن لدينا مشكل الأم العازبة والجهل وعدم التوعية لا يمكن تأخير سن الزواج".
وحرصت مديرة جمعية "أم البنين" على التذكير بأن القوانين موجودة أصلا في الشريعة، وأن الخطر يكمن في مساعي التطور في مختلف الميادين مع شعب وصفته بـ"المسكين والمنهار، خاصة طبقته الكادحة التي تعاني من فقر مدقع". واستطردت قائلة: "عندما نعود إلى القرآن والسنة والشريعة، نجد أن القوانين موجودة أصلا، لكن المسؤولين لم يجهزوا الأرضية في البداية، والخطير في المغرب هو الافتقار لهذه الأرضية ونقل التقدم عن أوروبا التي تفصلنا عنها ليس فقط 100 عام بل سأقول 200 عام".
"فضيحة" خلط الأنساب
وما بات يثير فزع جمعية "أم البنين" حاليا هو مسألة خلط الأنساب التي وصفتها السيدة محجوبة إدبوش بـ"الفضيحة" مرددة هذه الكلمة ثلاث مرات... وكيف لا تصفها كذلك وهي التي التقت ببنات وضعوا خمسة أطفال وفرقوهم على أسر مختلفة في نفس المدينة؟ أليس هنالك خطر لقاء هؤلاء الإخوة والزواج بين بعضهم البعض؟ كيف لا تخاف هذه السيدة وهي التي سمعت عن أب تزوج ابنته (التي لم يعترف بها قبل سنوات) في مدينة الدار البيضاء؟ فالبنات يكبرن بسرعة والخطر دائما وارد.
تقول السيدة إدبوش التي أجهشت بالبكاء خلال حديثها: "نحن نتساءل ألف سؤال يوميا أصبحنا نخاف من خلط الأنساب إلى درجة لا تتصور، الناس يعملون ثماني ساعات ونحن تحولنا إلى آلات لا تتوقف إنها حرب، حرب أعصاب".
ورغم معايشتها اليومية لهذه الحرب وقلة الموارد المالية، إذ تظل "أرض البشر" المساعد الرئيسي لجمعية "أم البنين"، تواصل السيدة إدبوش بشجاعة المشوار ولا تتردد في القول: "لقد حالفني الحظ بلقاء أرض البشر، كانت أكبر تجربة لي، أظهروا لي الحقيقة وأعطوني الإمكانيات التي سنحت لي باكتشاف مشاكل بلادي، لقد أعطوني التأطير والحب، وأعتقد أن (أرض البشر) لم تُـُشكر بعد بالطريقة التي تستحقها".